فصل: باب نِكَاحِ الأبْكَارِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


بسم الله الرحمن الرحيم

كِتَاب النِّكَاحِ

باب التَّرْغِيبِ فِى النِّكَاحِ

لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ الآيَة‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا، كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا‏:‏ وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ‏:‏ أَمَّا أَنَا، فَإِنِّى أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ‏:‏ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ‏:‏ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا‏.‏

فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا، وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، ولَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ فِى قَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏، قَالَتْ‏:‏ هى الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِى حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِى مَالِهَا وَجَمَالِهَا، يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ صَدَاقِهَا، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، فَيُكْمِلُوا الصَّدَاقَ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ‏.‏

قال أهل التفسير فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانكحوا ما طاب لكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏، يعنى فانكحوا ما أحللت لكم مثنى وثلاث ورباع‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذا الحديث من الفقه أن النكاح من سنن الإسلام، وأنه لا رهبانية فى شريعتنا، وأن من ترك النكاح رغبة عن سنة محمد عليه السَّلام فهو مذموم مبتدع، ومن تركه من أجل أنه أوفق له وأعون على العبادة فلا ملامة عليه؛ لأنه لم يرغب عن سنة نبيه وطريقته، وفيه الاقتداء بالأئمة فى العبادة، والبحث عن أحوالهم وسيرهم فى الليل والنهار، وأنه لا يجب أن يتعدى طرق الأئمة الذين وضعهم الله ليقتدى بهم فى الدين والعبادة، وأنه من أراد الزيادة على سيرهم فهو مفسد، فإن الأخذ بالتوسط والقصد فى العبادة أولى حتى لا يعجز عن شىء منها، ولا ينقطع دونها، لقوله عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏خير العمل ما دام عليه صاحبه وإن قل‏)‏‏.‏

وفى تفسير عائشة للآية من الفقه ما قال به مالك من صداق المثل، والرد إليه فيما فسد صداقه، ووقع الغبن فى مقداره؛ لقولها‏:‏ من سنة صداقها، فوجب أن يكون الصداق معروفًا لكل طبقة من الناس على قدر أحوالهم، وقد قال مالك‏:‏ للناس مناكح قد عرفت لهم، وعرفوا بها، أى أن للناس صدقات وأكفاء، فإذا كان الله قد نهى عن نكاح اليتيمة حتى يبلغها صداق مثلها، فوجب ألا يجوز نكاح بقبضة تبن، ولا بما لا خطر له ولا حطب، كما قال بعض الناس، والذى أصله مالك فى أقل الصداق، وهو الذى يؤدى إليه النظر على كتاب الله، ويصححه القياس من أنه لا يستباح عضو مسلمة بأقل مما استباحه النبى عليه السَّلام من عضو مسلم بالسرقة، وذلك ربع دينار فما كان أقل من ذلك فخلاف للسنة، وستأتى مذاهب العلماء فى هذه المسألة بعد هذا‏.‏

وفيه‏:‏ أن تفسير القرآن لا يؤخذ إلا عمن له علم به، كما كانت عائشة أولى الناس بعلمه من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم لاختصاصها به‏.‏

وفيه‏:‏ أن المرأة غير اليتيمة لها أن تنكح بأدنى من صداق مثلها؛ لأنه تعالى إنما حرج ذلك فى اليتامى، وأباح سائر النساء بما أجبن إليه من الصداق، هذا مفهوم من الآية‏.‏

وفيه‏:‏ أن لولى اليتيمة أن ينكحها من نفسه إذا عدل فى صداقها‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فإنَّه أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ‏)‏

وَهَلْ يَتَزَوَّجُ مَنْ لا إِرَبَ لَهُ فِى النِّكَاحِ‏؟‏ - فيه‏:‏ عَلْقَمَةَ، قَالَ‏:‏ كُنْتُ مَعَ عَبْدِاللَّهِ فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى، فَقَالَ‏:‏ يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، إِنَّ لِى إِلَيْكَ حَاجَةً فَخَلَيا، فَقَالَ عُثْمَانُ‏:‏ هَلْ لَكَ يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ فِى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِكْرًا تُذَكِّرُكَ مَا كُنْتَ تَعْهَدُ‏؟‏ فَلَمَّا رَأَى عَبْدُاللَّهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى هَذَا أَشَارَ لَىّ، فَقَالَ‏:‏ يَا عَلْقَمَةُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ أَمَا لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، لَقَدْ قَالَ لَنَا النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏باب من لم يستطع الباءة فليصم‏)‏‏.‏

ذهب جماعة الفقهاء إلى أن النكاح مندوب إليه مرغب فيه، وذهب أهل الظاهر إلى أنه فرض على الرجل والمرأة مرة فى الدهر إن كان الرجل واجدًا لطول الحرة، وإن عدم لزمه نكاح الأمة، واحتجوا بظاهر هذا الحديث، وحملوا أمره عَلَيْهِ السَّلام بالنكاح على الإيجاب، قالوا‏:‏ ولكنه أمر لخاص من الناس، وهم الخائفون على أنفسهم العنت بتركهم النكاح، فأما من لم يخف العنت، فهو غير مراد بالحديث‏.‏

قالوا‏:‏ وقد بين صحة قولنا إخباره عَلَيْهِ السَّلام عن السبب الذى من أجله أمر الذى يستطيع الباءة بالنكاح، وذلك قوله‏:‏ ‏(‏فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج‏)‏، فمن قدر على غض بصره عن المحارم، وتحصين فرجه فغير فرض عليه النكاح، ومن كان غير قادر على ذلك وخشى مواقعة الحرام، فالنكاح فرض عليه لأمر النبى عليه السَّلام إياه به‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى بقوله‏:‏ ‏(‏ومن لم يستطع فعليه بالصيام‏)‏، وإذا كان الصوم الذى هو بدل عن النكاح ليس بواجب فمبدله مثله، وأيضًا فإن جماعة من الصحابة تركوه وهم قادرون عليه وعكفوا على العبادة، فلو كان واجبًا لكان تركه معصية، ولا يجوز أن يفعله الصحابة وهو معصية، وخاصة بكون الرسول صلى الله عليه وسلم باقيًا، فلما لم ينقل عنه ولا عن الأئمة بعده النكير على من لم يتزوج، علم أنه غير واجب‏.‏

فإن قال أهل الظاهر‏:‏ قد قال معاذ بن جبل‏:‏ زوجونى لئلا ألقى الله أعزب، وقال عمر لأبى الزوائد‏:‏ لم لا تتزوج‏؟‏ ما يمنعك منه مع علمك بوجوبه إلا عجز أو فجور، قيل‏:‏ أما معاذ فأراد أن يلقى الله على أكمل أحواله؛ لأن النكاح مندوب إليه، ويحتمل أن يريد عمر بوجوبه وجوب سنة، وهذا أبو الزوائد من الصحابة لم يتزوج‏.‏

ومن الدليل أنه غير فرض أنه قضاء شهوة، ولم يفرض الله على أحد من خلقه فرضًا هو شهوة لا يخاف مع تركها الهلاك، فإن قالوا‏:‏ الغذاء هو شهوة، وقد فرض الله إحياء النفوس به، قيل‏:‏ ليس فى ترك الجماع خوف الهلاك كما فى فقد الغذاء، فهما غير مشتبهين‏.‏

وإذا كان لا يخاف الهلاك فى فقد الجماع، فالفضل فى الصبر على تركه، إذ الفضل فى ترك اللذات، وفى إجماع الحجة على أن من صبر عن النكاح ولم يقتحم محرمًا بصبره عنه غير حرج ولا آثم أدل دليل على صحة ما قلناه من أن أمر النبى عليه السَّلام بالنكاح على الندب لا على الفرض، وهذا قول الطبرى، وابن القصار، وقد تقدم تفسير الباءة والوجاء فى كتاب الصيام‏.‏

باب كَثْرَةِ النِّسَاءِ

- فيه‏:‏ عَطَاء، حَضَرْنَا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ جِنَازَةَ مَيْمُونَةَ بِسَرِفَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ هَذِهِ زَوْجَةُ النَّبِىِّ عليه السَّلام فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا، فَلا تُزَعْزِعُوهَا، وَلا تُزَلْزِلُوهَا، وَارْفُقُوا، فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام تِسْعٌ كَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ، وَلا يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِى لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن جُبَيْرٍ، قال‏:‏ قال لِى ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ هَلْ تَزَوَّجْتَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ فَتَزَوَّجْ، فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً‏.‏

قال المهلب‏:‏ لم يرد ابن عباس أنه من كثر نساؤه من المسلمين أنه خيرهم، وإنما قاله على معنى الحض والندب إلى النكاح، وترك الرهبانية فى الإسلام، وأن النبى، عليه السلام، الذى يجب علينا الاقتداء به واتباع سنته كان أكثر أمته نساء؛ لأن الله تعالى أحل له منهن تسعًا بالنكاح، ولم يحل لأحد من أمته غير أربع‏.‏

وفى هذا الحديث من الفقه أن حرمة المسلم ميتًا كحرمته حيًا؛ لأن ابن عباس راعى من توقير زوج النبى صلى الله عليه وسلم بعد موتها ما كان يراعيه فى حياتها، والتى لم يقسم لها النبى صلى الله عليه وسلم من أزواجه هى سودة؛ لأنها وهبت يومها لعائشة؛ لعلمها بحب النبى صلى الله عليه وسلم لها، وإنما فعلت ذلك رغبة أن تحشر فى جملة أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، فكانت من أزواجه ولم يكن لها قسمة فى المبيت‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ الزعزعة تحريك الشىء إذا أردت رفعه، وكذلك تحريك الريح الشجر، والزلزلة الاضطراب أخذ من زلزلة الأرض‏.‏

باب مَنْ هَاجَرَ أَوْ عَمِلَ خَيْرًا لِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ فَلَهُ مَا نَوَى

- فيه‏:‏ عُمَر، قال النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ‏)‏‏.‏

قال محمد بن الحسين الآجرى‏:‏ لما هاجر النبى، عليه السلام، من مكة إلى المدينة وجب على جميع المسلمين ممن هو بمكة أن يهاجروا، ويدعوا أهليهم وعشائرهم وديارهم، يريدون بذلك وجه الله، فكان الناس يهاجرون على هذا النعت، فخرج رجل من مكة مهاجرًا فى الظاهر قد شمله الطريق مع الناس، ولم يكن مراده الله ورسوله، وإنما كان مراده تزويج امرأة من المهاجرات قبله أراد تزويجها، فلم يعد فى المهاجرين، وسمى مهاجر أم قيس‏.‏

باب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ الَّذِى مَعَهُ الْقُرْآنُ وَالإسْلامُ

- فيه‏:‏ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن مَسْعُود، كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَسْتَخْصِى‏؟‏ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ أما قوله‏:‏ تزويج المعسر الذى معه القرآن والإسلام، فدليل على أنه لم يملكها إياه على التعليم، ولو كان على التعليم لما كان معسرًا‏.‏

وقوله‏:‏ والإسلام يدل على ذلك؛ لأنها كانت مسلمة، فلا يجوز أن يعلمها الإسلام، فيكون على معنى الأجرة، وإنما راعى له عليه السلام حرمة حفظه القرآن، ومن جعله على التعليم فقد يجوز ألا تتعلم شيئًا فلا يستحقها الزوج، وقد ملكه الرسول صلى الله عليه وسلم إياها قبل التعليم‏.‏

وسيأتى مذاهب العلماء فى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏قد زوجتكها بما معك من القرآن‏)‏، فى حديث سهل بعد هذا، إن شاء الله، وأما موضع الترجمة من حديث ابن مسعود، فهو أنه عليه السلام، لما نهى أصحابه المعسرين عن الخصاء، دل على جواز التزويج للمعسر، ولو لم يجز التزويج إلا للأغنياء لحظره عليهم من أجل عسرتهم، فهو دليل فى حديث ابن مسعود، ونص فى حديث سهل بقوله‏:‏ ‏(‏قد زوجتكها بما معك من القرآن‏)‏، وكتاب الله شاهد بصحة هذا المعنى، وهو قوله‏:‏ ‏(‏وأنكحوا الأيامى منكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏ الآية‏.‏

باب قَوْلِ الرَّجُلِ لأخِيهِ‏:‏ انْظُرْ أَىَّ زَوْجَتَىَّ شِئْتَ حَتَّى أَنْزِلَ لَكَ عَنْهَا

رَوَاهُ ابْنُ عَوْفٍ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، قَدِمَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَآخَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأنْصَارِىِّ، وَعِنْدَ الأنْصَارِىِّ امْرَأَتَانِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَقَالَ‏:‏ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِى أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِى عَلَى السُّوقِ، فَأَتَى السُّوقَ فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وسَمْنٍ، فَرَآهُ النَّبِىُّ عليه السَّلام بَعْدَ أَيَّامٍ، وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَهْيَمْ يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

فى هذا الحديث ما كان عليه الصدر الأول من هذه الأمة من الإيثار على أنفسهم، وبذل النفيس لإخوانهم، كما وصفهم الله فى كتابه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه جواز عرض الرجل أهله على أهل الصلاح من إخوانه‏.‏

وفيه‏:‏ أنه لا بأس أن ينظر الرجل إلى المرأة قبل أن يتزوجها‏.‏

وفيه‏:‏ المواعدة بطلاق امرأة لمن يحب أن يتزوجها، وفيه تنزه الرجل عما يبذل له ويعرض عليه من المال وغيره، والأخذ بالشدة على نفسه فى أمر معاشه‏.‏

وفيه‏:‏ أن العيش من تجر أو صناعة أولى بنزاهة الأخلاق من العيش من الصدقات والهبات وشبهها‏.‏

وفيه‏:‏ مباشرة الفضلاء للتجارات بأنفسهم وتصرفهم فى الأسواق فى معايشهم وليس ذلك نقص لهم‏.‏

وفيه‏:‏ سؤال الرجل عن من تزوج وما نقد ليعينه الناس على وليمته ومؤنته‏.‏

وفيه‏:‏ سؤاله عما تزوج من البكر أو الثيب، وحضه على البكر للملاعبة والانهمال الحلال، وستأتى سائر معانى هذا الحديث فى مواضعها، إن شاء الله‏.‏

وقوله‏:‏ مهيم، كلمة موضوعة للاستفهام، ومعناها ما شأنك وما أمرك‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ وَالْخِصَاءِ

- فيه‏:‏ سَعْد، رَدَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاخْتَصَيْنَا‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن مسعود، كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ لَنَا نساء، فَقُلْنَا‏:‏ أَلا نَسْتَخْصِى‏؟‏ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏ الآية‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى رَجُلٌ شَابٌّ، وَإِنى أَخَافُ عَلَى نَفْسِى الْعَنَتَ، وَلا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ، فَسَكَتَ عَنِّى، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَكَتَ عَنِّى، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَكَتَ عَنِّى، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ، فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما نهى عليه السلام عن التبتل والترهب من أجل أنه يكاثر بأمته الأمم يوم القيامة، وأنه فى الدنيا مقاتل بهم طوائف الكفار، وفى آخر الزمان يقاتلون الدجال، فأراد عليه السلام أن يكثر النسل‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ التبتل الذى أراده عثمان بن مظعون ما كان عزم عليه من ترك النساء والطيب وكل ما يلتذ به، مما أحله الله لعباده من الطيبات والترهب، فأنزل الله فى النهى عن ذلك‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏ الآية، وروى هذا عن ابن عباس وجماعة‏.‏

فلا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شىء مما أحله الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك له بعض العنت والمشقة أو أمنه، وذلك لرد النبى صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون، فثبت أنه لا فضل فى ترك شىء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو فى فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسوله وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدى هدى نبينا محمد‏.‏

فإذا كان كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لبس ذلك من حله، وآثر أكل الفول والعدس على أكل خبز البر والشعير، وترك أكل اللحم والودك حذرًا من عارض الحاجة إلى النساء، فإن ظن ظان أن الفضل فى غير الذى قلنا لما فى لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس، وصرف فضل ما بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة، فقد ظن خطأ‏.‏

وذلك أن أولى للإنسان بالنفس إصلاحها وعونها له على طاعة ربها ولا شىء أضر للجسم من المطاعم الردية؛ لأنها مفسدة لعقله، ومضعفة لأدواته التى جعلها الله سببًا إلى طاعاته‏.‏

وفيه‏:‏ أن خصاء بنى آدم حرام، وذلك أن التبتل إذ كان منهيًا عنه ولا جناية فيه على النفس غير منعها المباح لها، فمنعها ما فيه جناية عليها بإيلامها وتعذيبها بقطع بعض الأعضاء أحرى أن يكون منهيًا عنه، فثبت بهذا أن قطع شىء من أعضاء الإنسان من غير ضرورة تدعوه إلى ذلك حرام عليه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقول ابن مسعود‏:‏ ثم أرخص لنا أن ننكح بالثوب، يعنى المتعة، التى كانت حلالاً فى أول الإسلام، ثم نسخت بالعدة والميراث والصداق، وفى حديث أبى هريرة إثبات القدر، وأن المرء لا يفعل باختياره شيئًا لم يكن سبق فى علم الله‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ التبتل هو ترك شهوات الدنيا ولذاتها، والانقطاع إلى الله بالتفرغ لعبادته، والبتل القطع، ومنه قيل لمريم‏:‏ البتول؛ لانقطاعها إلى الله بالخدمة، ومنه قولهم‏:‏ صدقة بتلة، يعنى منقطعة عن مالكها، وقال أبو زيد الأنصارى‏:‏ التبتل العزوبة‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وهذا الذى قاله أبو زيد نوع من أنواع التبتل‏.‏

باب نِكَاحِ الأبْكَارِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَائِشَةَ‏:‏ لَمْ يَنْكِحِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِكْرًا غَيْرَكِ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا، وَوَجَدْتَ شَجَرة لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، فِى أَيِّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فِى التى لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، يَعْنِى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏أُرِيتُكِ فِى الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ، إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِى سَرَقَةِ حَرِيرٍ، فَيَقُولُ‏:‏ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَأَكْشِفُهَا، فَإِذَا هِىَ أَنْتِ، فَأَقُولُ إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه فضل الأبكار على غيرهن، وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه حض على نكاح الأكبار، وقال‏:‏ ‏(‏إنهن أطيب أفواهًا، وأنتق أرحامًا، وأطيب أخلاقًا‏)‏، وقيل فى تفسير‏:‏ ‏(‏أنتق أرحامًا‏)‏‏:‏ أقبل للولد‏.‏

وفيه‏:‏ فخر النساء على ضرائرهن عند الأزواج‏.‏

وفيه‏:‏ ضرب الأمثال وتشبيه الإنسان بالشجرة‏.‏

وسيأتى معنى قوله‏:‏ ‏(‏إن يكن هذا من عند الله يمضه‏)‏، فى كتاب التعبير من هذا الكتاب فى باب كشف المرأة فى المنام، إن شاء الله، فهو أولى به‏.‏

باب نِكَاحِ الثَّيِّبَاتِ

وَقَالَ النَّبِىّ لأُمُّ حَبِيبَةَ‏:‏ ‏(‏لا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ جَابِر، قَفَلْنَا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةٍ، فَتَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِى قَطُوفٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا يُعْجِلُكَ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ كُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرُسٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏بِكْر أَمْ ثَيِّب‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ ثَيِّب، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَهَلا جَارِيَةً تُلاعِبُكَ وَتُلاعِبُهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏؟‏ الحديث‏.‏

- وقال أيضًا‏:‏ ‏(‏مَا لَكَ وَلِلْعَذَارَى وَلِعَابِهَا‏؟‏‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه جواز نكاح الثيبات للشبان إذا كان ذلك لمعنى، كالمعنى الذى قصد له جابر من سبب أخواته، وذلك أن يكون للناكح بنات أو أخوات غير بالغات يحتجن إلى قيم ومتعهد‏.‏

وفيه‏:‏ أن نكاح الأبكار للشبان أولى لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فهلا جارية‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ سؤال الإمام رجاله عن أحوالهم فى نكاحهم ومفاوضتهم فى ذلك‏.‏

وفيه‏:‏ أن ملاعبة الأهل مستحبة؛ لأن ذلك يحبب الزوجين بعضهما لبعض، ويخفف المؤنة بينهما، ويرفع حياء المرأة عما يحتاج إليه الرجل فى مباعلتها، قال الله تعالى فى نساء الجنة‏:‏ ‏(‏عربًا أترابًا‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 37‏]‏ والعروب المتحببة إلى زوجها، ويقال‏:‏ العاشقة له، ويقال‏:‏ الحسنة التبعل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً‏)‏، يريد حتى يسبقكم خبر قدومكم إلى أهليكم، ‏(‏فتستحد المغيبة وتمتشط الشعثة‏)‏، أى تصلح كل امرأة نفسها لزوجها مما غفلت عنه فى غيبته، وإنما معنى ذلك لئلا يجد منها ريحًا أو حالة يكرهها، فيكون ذلك سببًا إلى بغضتها، وهذا من حسن أدبه عليه السلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولعابها‏)‏، هو مصدر لاعب ملاعبة ولعابًا، كما تقول‏:‏ قاتل مقاتلة وقتالاً‏.‏

باب تَزْوِيجِ الصِّغَارِ مِنَ الْكِبَارِ

- فيه‏:‏ عُرْوَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ عَائِشَة، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَنْتَ أَخِى فِى دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَهِىَ لِى حَلالٌ‏)‏‏.‏

أجمع العلماء على أنه يجوز للآباء تزويج الصغار من بناتهم، وإن كن فى المهد، إلا أنه لا يجوز لأزواجهن البناء بهن إلا إذا صلحن للوطء واحتملن الرجال، وأحوالهن تختلف فى ذلك على قدر خلقهن وطاقتهن، وكانت عائشة حين تزوج بها النبى صلى الله عليه وسلم بنت ست سنين، وبنى بها بنت تسع، وقد ذكره البخارى بعد هذا فى باب نكاح الرجل ولده الصغار‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وفى هذا الحديث دليل على أن نهيه، عليه السلام، عن إنكاح البكر حتى تستأذن أنها البالغ التى لها إذن، إذ قد أجازت السنة أن يعقد الأب النكاح على الصغيرة التى لا إذن لها‏.‏

واختلف العلماء فى تزويج الأولياء غير الآباء اليتيمة الصغيرة، فقال ابن أبى ليلى، ومالك، والليث، والثورى، والشافعى، وابن الماجشون، وأحمد، وأبو ثور‏:‏ ليس لغير الأب أن يزوج اليتيمة الصغيرة، فإن فعل فالنكاح باطل، وحكى ابن المنذر عن مالك أنه قال‏:‏ يزوج الوصى الصغيرة دون الأولياء إذا كان وصيًا لها، والجد عند الشافعى عند عدم الأب كالأب‏.‏

قالت طائفة‏:‏ إذا زوج الصغيرة غير الأب من الأولياء، فلها الخيار إذا بلغت، روى هذا عن عطاء، والحسن، وطاوس، وهو قول الأوزاعى، وأبى حنيفة، ومحمد، إلا أنهما جعلا الجد كالأب لا خيار فى تزويجه‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ لا خيار لها فى جميع الأولياء‏.‏

وقال أحمد‏:‏ لا أرى للولى ولا للقاضى أن يزوج اليتيمة حتى تبلغ تسع سنين، فإذا بلغتها ورضيت فلا خيار لها‏.‏

وحجة من جعل لها الخيار إذا بلغت أن النبى صلى الله عليه وسلم لما أمر باستئمار اليتيمة، ولا تستأمر إلا من لها ميزة ومعرفة كان لها الخيار والاستئمار إذا بلغت‏.‏

وحجة القول الأول قول النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏تستأمر اليتيمة فى نفسها‏)‏، ولا يصح استئمارها إلا ببلوغها، ولا يجوز أن يكون العقد موقوفًا على استئمارها بدليل امتناع الجميع من دخول الخيار فى عقد النكاح، ووقوفها إلى مدة فيها الخيار‏.‏

وفرق مالك بين اليتيمة واليتيم، فأجاز للوصى تزويج اليتيم قبل البلوغ من قبل أن اليتيم لما كان قادرًا على رفع العقد الذى يوقعه الولى إن كرهه بعد بلوغه جاز ذلك لقدرته على الخروج منه، وليس كذلك اليتيمة؛ لأنها لا تقدر إذا بلغت على رفع العقد؛ لأن الطلاق ليس بيد النساء، فافترقا لهذه العلة، ولأن السنة وردت فى منع العقد على اليتيمة حتى تستأمر، ولا يصح استئمارها إلا بعد البلوغ، هذا قول مالك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث عائشة من الفقه جواز خطبة الرجل لنفسه إلى ولى المخطوبة إذا علم أنه لا يرده لتأكد ما بينهما، ويحتمل قول أبى بكر للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنما أنا أخوك، أن يعتقد أنه لا يحل له أن يتزوج ابنته للمؤاخاة والخلة التى كانت بينهما، فأعلمه النبى صلى الله عليه وسلم أن أخوة الإسلام ليست كأخوة النسب والولادة، فقال‏:‏ ‏(‏إنها لى حلال بوحى من الله تعالى‏)‏، كما قال إبراهيم للذى أراد أن يأخذ منه زوجته‏:‏ هى أختى، يعنى فى الإيمان؛ لأنه لم يكن أحد مؤمنًا غيرهما يومئذ‏.‏

باب إِلَى مَنْ يَنْكِحُ‏؟‏ وَأَىُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ‏؟‏ وَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِنُطَفِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ‏؟‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ‏:‏ ‏(‏خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِى صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِى ذَاتِ يَدِهِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما يركب الإبل نساء العرب، ونساء قريش من العرب، فنساء قريش خير نساء العرب، وقد أخبر عليه السلام بما استوجبن ذلك، وهو حنوهن على أولادهن، ومراعاتهن لأزواجهن، وحفظهن لأموالهم، وإنما ذلك لكرم نفوسهن، وقلة غائلتهن لمن عاشرهن وطهارتهن من مكايدة الأزواج ومشاحنتهن‏.‏

وفيه‏:‏ جواز مدح الرجل نساء قومه وولياته بفضائلهن، ومعنى هذا الحديث الحض على نكاح أهل الصلاح والدين وشرف الآباء؛ لأن ذلك يمنع من ركوب الإثم وتقحم العار، ولهذا المعنى قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏عليك بذات الدين تربت يداك‏)‏‏.‏

باب اتِّخَاذِ السَّرَارِىِّ وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَ بِهَا

- فيه‏:‏ أَبُو موسى، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ، فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، عن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلا ثَلاثَ كَذَبَاتٍ‏:‏ بَيْنَمَا إِبْرَاهِيمُ مَرَّ بِجَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏- وَذَكَرَ الْحَدِيثَ‏:‏ ‏(‏فَأَعْطَاهَا هَاجَرَ، قَالَتْ‏:‏ كَفَّ اللَّهُ يَدَ الْكَافِرِ وَأَخْذَ مَنِى هَاجَرَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، أَقَامَ الرسول صلى الله عليه وسلم بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاثًا يبْنَى عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىٍّ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلا لَحْمٍ، أُمِرَ إلا التَّمْرِ وَالأقِطِ وَالسَّمْنِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ‏:‏ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَقَالُوا‏:‏ إِنْ حَجَبَهَا، فَهِىَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا، فَهِىَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّى لَهَا خَلْفَهُ، وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ اتخاذ السرارى مباح؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 6‏]‏، فأباح ملك اليمين كما أباح ملك النكاح، ورغب عليه السلام فى عتق الإماء وتزويجهن بقوله أن فاعل ذلك له أجران، وإنما ذكر حديث أبى هريرة لما فيه من هبة الكافر خادمًا لسارة، وقبول إبراهيم لها‏.‏

واختلف العلماء فيمن أعتق جاريته وتزوجها، فذهب قوم إلى أنه إن أعتقها، وجعل عتقها صداقها، فذلك جائز، فإن تزوجته فلا مهر لها غير العتاق على حديث صفية، روى هذا عن أنس بن مالك أنه فعله، وهو راوى حديث صفية، وهو قول سعيد بن المسيب، وطاوس، والنخعى، والحسن البصرى، والزهرى، وإليه ذهب الثورى، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ليس لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل هذا، وإنما كان ذلك خاصًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله أباح له أن يتزوج بغير صداق، ولم يجعل ذلك لأحد من المؤمنين غيره، هذا قول مالك، وأبى حنيفة، وزفر، ومحمد، والشافعى‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى بأن عبد الله بن عمر، روى عن النبى، عليه السلام، أنه فعل فى جويرية بنت الحارث مثل ما فعله فى صفية أنه أعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها، رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع عنه‏.‏

وقال أهل المقالة الثانية‏:‏ لا حجة فى خبر جويرية أيضًا؛ لأن ابن عمر رواه عن النبى صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ إنه خاص له‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فنظرنا فى عتق النبى صلى الله عليه وسلم جويرية كيف كان، فروى ابن إسحاق عن عمر بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة، أنه لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث فى سهم ثابت بن قيس، فكاتبت على نفسها وجاءت تستعين رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتابتها، فقال لها‏:‏ ‏(‏هل لك فى خير من ذلك، أقضى عنك كتابتك وأتزوجك‏؟‏‏)‏، قالت‏:‏ نعم، فتزوجها‏.‏

فبينت عائشة العتاق الذى ذكره ابن عمر الذى جعله مهرها أنه أداه عنها كتابتها لتعتق بذلك الأداء، ويكون مهرًا لها، فلما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل ذلك مهرًا لها كان ذلك له خاصًا دون أمته، كما كان له خاصًا أن يجعل العتاق الذى تولاه هو مهرًا‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ قد رأيت الرجل يعتق أمته على مال فتقبل منه، فتكون حرة، ويجب له عليها ذلك المال، فما ننكر إذا أعتقها على أن عتقها صداقها فقبلت ذلك منه أن تكون حرة، ويجب ذلك له عليها‏.‏

قيل‏:‏ إذا أعتقها على مال فقبلت ذلك منه وجب لها عليه العتاق، ووجب له عليها المال، فوجب لكل واحد منهما بذلك العقد سببًا أوجبه له ذلك العقد لم يكن مالكًا له قبل ذلك‏.‏

وإذا أعتقها على أن عتقها صداقها، فقد ملكها رقبتها على أن ملكيته بضعها، فملكها رقبة هو لها مالك، ولم تكن هى مالكة لها قبل ذلك، على أن ملكته بضعًا هو له مالك قبل ذلك، فلم تملكه بذلك العتاق شيئًا لم يكن له مالكًا قبله، وإنما ملكته بعض ما قد كان له، فلذلك لم يجب عليها بذلك العتاق شىء، هذه حجة على من يقول‏:‏ تكون له زوجة بالعتاق الذى هو الصداق‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أنه يجوز للسيد إذا أعتق أمته أن يزوجها من نفسه دون السلطان، وكذلك الولى فى وليته، وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى باب إذا كان الولى هو الخاطب بعد هذا، إن شاء الله‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وفى تزويج النبى صلى الله عليه وسلم صفية من نفسه إجازة النكاح بغير شهود إذا أعلن، وهو قول الزهرى، وأهل المدينة، ومالك، وعبد الله بن الحسن، وأبى ثور، وروى عن ابن عمر أنه تزوج ولم يحضر النكاح شاهدين، وأن الحسن بن على زوج عبد الله ابن الزبير وما معهما أحد من الناس ثم أعلنوه بعد ذلك‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يجوز نكاح إلا بشاهدى عدل، روى ذلك عن ابن عباس، وعطاء، والنخعى، وسعيد بن المسيب، والحسن، وبه قال الثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد ابن حنبل، وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز النكاح إلا بشاهدين، ويجوز أن يكونا محدودين فى قذف، أو فاسقين، أو أعميين، وأجمع العلماء على رد شهادة الفاسق‏.‏

وكان يزيد بن هارون يعتب أصحاب الرأى، ويقول‏:‏ أمرنا الله بالإشهاد عند التبايع، فقال‏:‏ ‏(‏وأشهدوا إذا تبايعتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏، وأمر بالنكاح ولم يأمر بالإشهاد عليه، فزعم أصحاب الرأى أن البيع الذى أمر الله بالإشهاد عليه جائز من غير شهود، وأن النكاح الذى لم يأمر بالإشهاد عنده لا يجوز إلا بشهود‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقد اختلف فى ذلك أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء الحديث الثابت الدال على إجازة النكاح من غير شهود، وهو حديث تزويج الرسول صلى الله عليه وسلم صفية، ألا ترى أن أصحابه اختلفوا فلم يعرفوا إن كانت زوجة له أو ملك يمين، واستدلوا على أنه تزوجها بالحجاب‏.‏

فدل ذلك على أنه لم يشهدهم على نكاحها، واجتزأ فيه بالإعلان، ولو كان هناك شهود ما خفى ذلك عليهم، وفيه الحكم بالدليل‏.‏

ووقع فى المغازى فى هذا الكتاب فى هذا الحديث كلمة من الغريب، وهى قوله‏:‏ ‏(‏يحوى لها وراءه بعباءة‏)‏، أى يدير كساء حول سنام البعير لتركب عليه، وهو الحوية‏.‏

قال الأصمعى‏:‏ والحوية كساء محشو بثمام أو ليف يجعل على ظهر البعير، وفى قصة بدر أن أبا جهل بعث عمير بن وهب ليحزر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاف عمير برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع قال‏:‏ رأيت الحوايا عليها المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع‏.‏

باب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ

لِقَوْلِ اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ سَهْلِ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِى، فَنَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا، جَلَسَتْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىْءٍ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ، فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا‏)‏ فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ‏:‏ لا، وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ‏)‏، فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ‏:‏ لا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِى، قَالَ سَهْلٌ‏:‏ مَا لَهُ رِدَاءٌ، فَلَه نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ، إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَىْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَىْءٌ، فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِىَ، فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَعِى سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّدَهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ جواز إنكاح المعسر، وأن الكفاءة إنما هى فى الدين لا فى المال، فإذا استجازت المرأة أو الولى التقصير فى المال جاز النكاح، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ ابتغوا الغنى فى النكاح، ما رأيت مثل من قعد بعد هذه الآية‏:‏ ‏(‏إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏، وذكر إسماعيل بن إسحاق، قال‏:‏ حدثنى إسماعيل بن أبى أويس، قال‏:‏ حدثنا سليمان بن بلال، عن ابن غيلان، عن سعيد بن أبى سعيد، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ثلاثة كلهم حق على الله عونه‏:‏ المجاهد فى سبيل الله، والناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث سهل جواز خطبة المرأة الرجل لنفسها إذا كان صالحًا، ولا عار عليها فى ذلك، وفيه أن النساء يخطبن إلى الأولياء، فإن لم يكن ولى فالسلطان ولى من لا ولى له، وسيأتى اختلاف العلماء فى قوله‏:‏ ‏(‏قد ملكتكها بما معك من القرآن‏)‏، بعد هذا إن شاء الله‏.‏

باب الأكْفَاءِ فِى الدِّينِ

وَقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 54‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِشَمْسٍ- وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام- تَبَنَّى سَالِمًا، وَأَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ هِنْدا بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ- وَهُوَ مَوْلًى لامْرَأَةٍ مِنَ الأنْصَارِ- كَمَا تَبَنَّى النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام زَيْدًا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، دَخَلَ النَّبِىّ عَلَيْهِ السَّلام عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهَا‏:‏ لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ لاَ وَاللَّهِ مَا أَجِدُنِى إِلا وَجِعَةً، قَالَ لَهَا‏:‏ حُجِّى وَاشْتَرِطِى، وَقُولِى‏:‏ اللَّهُمَّ مَحِلِّى حَيْثُ حَبَسْتَنِى، وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الأسْوَدِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأرْبَعٍ‏:‏ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ سَهْل، مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ مَا تَقُولُونَ فِى هَذَا‏؟‏ قَالُوا‏:‏ حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ، ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ‏:‏ مَا تَقُولُونَ فِى هَذَا‏؟‏ قَالُوا‏:‏ حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لا يُسْمَعَ، فَقَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هَذَا‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الأكفاء من هم‏؟‏ فقال مالك‏:‏ الأكفاء فى الدين دون غيره، والمسلمون بعضهم لبعض أكفاء، ويجوز أن يتزوج العربى والمولى القرشية‏.‏

روى ذلك عن عمر بن الخطاب، قال‏:‏ لست أبالى إلى أى المسلمين نكحت وأيهم أنكحت‏.‏

روى مثله عن ابن مسعود، ومن التابعين عمر بن عبد العزيز، وابن سيرين، وقال أبو حنيفة‏:‏ قريش كلهم أكفاء بعضهم لبعض، والعرب أكفاء بعضهم لبعض، ولا يكون أحد من العرب كفئًا لقريش، ولا أحد من الموالى كفئًا للعرب، ولا يكون كفئًا من لا يجد المهر والنفقة‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ ليس نكاح غير الكفء بمحرم فأراده بكل حال، وإنما هو تقصير بالمتزوجة والأولياء، فإن تزوجت غير كفء، فإن رضيت به وجميع الأولياء جاز، ويكون حقًا لهم تركوه، وإن رضيت به وجميع الأولياء إلا واحدًا منهم فله فسخه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن رضيت به وجميع الأولياء لم يجز، وكان الثورى يرى التفريق إذا نكح مولى عربية، ويشدد فيه، وقال أحمد بن حنبل‏:‏ يفرق بينهما‏.‏

واحتج الذين جعلوا الكفاءة فى النسب والمال، فقالوا‏:‏ العار يدخل على الأولياء والمناسبين؛ لأن حق الكفاءة دفع العار عنها وعنهم، قالوا‏:‏ وقد روى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ قريش بعضهم لبعض كفء، والموالى بعضهم لبعض كفء، إلا الحاكة والحجامين‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى بحديث عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة تبنى سالمًا وأنكحه بنت أخيه الوليد بن عتبة، وهى سيدة أيامى قريش، وسالم مولى لامرأة من الأنصار، وتزوج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب بنت عم النبى صلى الله عليه وسلم المقداد بن الأسود، وهو عربى حليف للأسود بن عبد يغوث تبناه ونسب إليه‏.‏

واحتجوا بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏عليك بذات الدين تربت يداك‏)‏، فجعل العمدة ذات الدين، فينبغى أن تكون العمدة فى الرجل مثل ذلك، ألا ترى قوله عليه السلام فى حديث سهل حين فضل الفقير الصالح على الغنى، وجعله خيرًا من ملء الأرض منه‏.‏

وقال المهلب‏:‏ الأكفاء فى الدين هم المتشاكلون وإن كان فى النسب تفاضل، فقد نسخ الله ما كانت تحكم به العرب فى الجاهلية من شرف الأنساب، وجعل الاعتبار بشرف الصلاح والدين، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا خلقناكم من ذكر وأنثى‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏ الآية، وقد نزع هذه الآية مالك بن أنس‏.‏

وأما قولهم‏:‏ إن العار يدخل عليها وعلى الأولياء، فيقال لهم‏:‏ مع الدين والصلاح لا يدخل عار على أحد، وإنما رغبوا فيه لدينه الذى يحمل كل شىء، وفى النسب وعدم الدين كل عار، وقد تزوج بلال امرأة قرشية، وتزوج أسامة بن زيد فاطمة بنت قيس، وهى قرشية‏.‏

وقد كان عزم عمر بن الخطاب على تزويج ابنته من سلمان الفارسى، فقال عمرو ابن العاص لسلمان‏:‏ لقد تواضع لك أمير المؤمنين، فقال سلمان‏:‏ لمثلى يتواضع، والله لا أتزوجها أبدًا، ولولا أن ذلك جائز لما أراده عمر ولا هم به؛ لأنه لا يدخل العار على نفسه وعشيرته، وأما حديث ضباعة فى الاشتراط فى الحج، فإنما ذكره فى هذا الباب لقوله فى آخر الحديث‏:‏ ‏(‏كانت تحت المقداد بن الأسود‏)‏‏.‏

واختلف العلماء فى الاشتراط فى الحج، فأجازه طائفة وأخذوا بهذا الحديث، فالاشتراط أن يقول عند إحرامه‏:‏ لبيك اللهم بحجة أو حجة وعمرة، إلا أن يمنعنى منه ما لا أقدر معه على النهوض، فيكون محلى حيث حبستنى ولا شىء علىّ‏.‏

وممن أجاز ذلك عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى، وابن مسعود، وعمار، وابن عباس، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وعروة، وعطاء، وعلقمة، وشريح، وعبيدة، وذكر ذلك ابن أبى شيبة، وعبد الرزاق، وقال به بعض أصحاب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏.‏

وأنكر الاشتراط طائفة أخرى، وقالوا‏:‏ هو باطل، روى ذلك عن ابن عمر، وعائشة، وهو قول النخعى، والحكم، وطاوس، وسعيد بن جبير، وإليه ذهب مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وقالوا‏:‏ لا ينفعه اشتراط، ويمضى على إحرامه حتى يتمه، وكان ابن عمر ينكر ذلك، ويقول‏:‏ أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يشترط، فإن حبس أحدكم بحابس عن الحج، فليأت البيت فليطف به وبين الصفا والمروة ويحلق أو يقصر، وقد حل من كل شىء حتى يحج قابلاً، ويهدى أو يصوم إن لم يجد هديًا‏.‏

وأنكر ذلك طاوس، وسعيد بن جبير، وهما رويا الحديث عن ابن عباس، وأنكره الزهرى، وهو روى الحديث عن عروة، وهذا كله مما يوهن الاشتراط‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى قوله‏:‏ ‏(‏تنكح المرأة لمالها‏)‏، دليل على أن للزوج الاستمتاع بمال الزوجة، وأنه يقصد لذلك، فإن طابت به نفسًا فهو له حلال، وإن منعته فإنما له من ذلك بقدر ما بذل من الصداق‏.‏

واختلفوا إذا أصدقها وامتنعت الزوجة أن تشترى شيئًا من الجهاز، فقال مالك‏:‏ ليس لها أن تقضى منه دينها، ولا أن تنفق منه فى غير ما يصلحها لعرسها إلا أن يكون الصداق شيئًا كثيرًا فتنفق منه شيئًا يسيرًا فى دينها‏.‏

وقال أبو حنيفة، والثورى، والشافعى‏:‏ لا تجبر على شراء ما لا تريد، والمهر لها تفعل فيه ما شاءت، واحتجوا بإجماعهم أنها لو ماتت والصداق بحاله أن حكمه كحكم سائر مالها، فإذا كان ذلك حكمه بعد وفاتها، فحكمه كذلك فى حياتها كحكم سائر مالها‏.‏

وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏تنكح المرأة لمالها‏)‏، يدل على أن للزوج الاستمتاع بمالها والارتفاق بمتاعها، ولولا ذلك لم يفدنا قوله‏:‏ ‏(‏تنكح المرأة لمالها‏)‏ فائدة، ولتساوت الغنية والفقيرة فى قلة الرغبة فيها، فقول مالك أشبه بدليل الحديث‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فاظفر بذات الدين تربت يداك‏)‏، فإن حقيقة هذه اللفظة عند أهل اللغة يراد بها الإخبار عن حلول الفقر‏.‏

قال ابن السكيت‏:‏ يقال‏:‏ تربت يداه، إذا افتقر‏.‏

وقال أبو عمرو‏:‏ أصابهما التراب، ولم يدع عليه بالفقر‏.‏

وقال الأصمعى فى تفسير الحديث‏:‏ لم يرد النبى صلى الله عليه وسلم الدعاء عليه بالفقر، وإنما أراد به الاستحثاث كما يقول الرجل‏:‏ انخ ثكلتك أمك، إذا استعجلته، وأنت لا تريد أن تثكله أمه‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ وهذا من باب الدعاء الذى لا يراد به الوقوع، وسأتقصى أقوال أهل اللغة فى هذه الكلمة فى كتاب الأدب فى باب قول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ترتب يمينك‏)‏، و‏:‏ ‏(‏عقرى حلقى‏)‏، إن شاء الله‏.‏

باب مَا يُتَّقَى مِنْ شُؤْمِ الْمَرْأَةِ

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 12‏]‏ الآية - فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏الشُّؤْمُ فِى‏:‏ الْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ وَالْفَرَسِ‏)‏‏.‏

وقال ابْن عُمر‏:‏ ذُكَر الشُّؤْمَ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِى شَىْءٍ فَفِى‏:‏ الدَّارِ وَالْمَرأَةِ وَالْفَرَسِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أُسَامَةَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏مَا تَرَكْتُ بَعْدِى فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ‏)‏‏.‏

قد تقدم الكلام فى معنى أحاديث الشؤم فى كتاب الجهاد فى باب ما يذكر من شؤم الفرس، فأغنى عن إعادته، وسيأتى فى كتاب الطب فى باب الطيرة رد قول من زعم أن أحاديث الشؤم تعارض نهيه، عليه السلام، عن الطيرة، ونفى التعارض عنها، وتوجيهها على ما يليق بها، إن شاء الله‏.‏

وفى حديث أسامة أن فتنة النساء أعظم الفتن مخافة على العباد؛ لأنه عليه السلام عمم جميع الفتن بقوله‏:‏ ‏(‏ما تركت بعدى فتنة أضر على الرجال من النساء‏)‏، ويشهد لصحة هذا الحديث قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 14‏]‏ الآية، فقدم النساء على جميع الشهوات، وقد روى عن بعض أمهات المؤمنين أنها قالت‏:‏ من شقائنا قدمنا على جميع الشهوات‏.‏

فالمحنة بالنساء أعظم المحن على قدر الفتنة بهن، وقد أخبر الله مع ذلك أن منهن لنا عدوًا، فينبغى للمؤمن الاعتصام بالله، والرغبة إليه فى النجاة من فتنتهن، والسلامة من شرهن، وقد روى فى الحديث أنه لما خلق الله المرأة فرح الشيطان فرحًا عظيمًا، وقال‏:‏ هذه حبالتى التى لا يكاد يخطئنى من نصبتها له‏.‏

باب الْحُرَّةِ تَحْتَ الْعَبْدِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَ فِى بَرِيرَةَ ثَلاثُ سُنَنٍ‏:‏ عَتَقَتْ فَخُيِّرَتْ، وَقَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ‏)‏، وَدَخَلَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَبُرْمَةٌ عَلَى النَّارِ، فَقِيلَ‏:‏ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ‏)‏‏.‏

أجمع العلماء أن الحرة يجوز لها أن تنكح العبد إذا رضيت به؛ لأن ولدها منه حر تبع لأمه لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏كل ذات رحم فولدها بمنزلتها‏)‏، يعنى فى العتق والرق، وذكر ابن المنذر، عن الشافعى، قال‏:‏ أصل الكفاءة مستنبط من حديث بريرة وصار زوجها غير كفء لها، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأجمعوا أن الأمة إذا عتقت تحت عبد قد كانت زوجته أن لها الخيار فى البقاء معه أو مفارقته، وإنما كان لها الخيار؛ لأنها إذا حدثت لها الحرية فقد حدث لها حال كمال ترتفع به عن العبد، ونقص الزوج عنها، وأيضًا فإنها حين عقد عليها سيدها لم تكن من أهل الاختيار لنفسها، فجعل لها الاختيار حين صارت أكمل حرمة من زوجها، فأما إذا كان زوجها حرًا فلا خيار لها عند جمهور العلماء؛ لأنه مساو لها فى حرمتها، فلا فضيلة لها عليه‏.‏

قال الكوفيون‏:‏ لها الخيار حرًا كان زوجها أو عبدًا، ورووا عن النخعى، عن الأسود، عن عائشة، أن زوج بريرة كان حرًا، وسيأتى بيان هذه الأقوال فى كتاب الطلاق فى باب التخيير مستوفى، إن شاء الله‏.‏

باب لا يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ

لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ وَقَالَ عَلِىُّ بْنُ الْحُسَيْنِ‏:‏ يَعْنِى مَثْنَى أَوْ ثُلاثَ أَوْ أربع، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏أُولِى أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 1‏]‏ مثله‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ ‏(‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏، قَالَتِ‏:‏ هى الْيَتِيمَةُ، يَتَزَوَّجُهَا وليها عَلَى مَالِهَا، وَيُسِىءُ صُحْبَتَهَا، وَلا يَعْدِلُ فِى مَالِهَا، فَلْيَتَزَوَّجْ من طَابَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهَا مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ لا يجوز لأحد أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة فى النكاح، وهو عندنا إجماع‏.‏

وقال قوم، لا يعدون خلافًا‏:‏ إنه يجوز الجمع بين تسع، واحتجوا أن معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثنى وثلاث ورباع‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏، يفيد الجمع بين العدد، بدليل أنه عليه السلام مات عن تسع، ولنا فيه الأسوة الحسنة‏.‏

وحجة الجماعة أن أهل التفسير اتفقوا فى تأويل قوله‏:‏ ‏(‏مثنى وثلاث ورباع‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏، أنه أراد التخيير بين الأعداد الثلاثة لا الجمع من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه لو أراد الجمع بين تسع لم يعدل عن لفظ الاختصار، وكان يقول‏:‏ فانكحوا تسعًا، والعرب لا تعدل أن تقول‏:‏ تسعة، وتقول‏:‏ اثنان وثلاثة وأربعة، فلما قال‏:‏ ‏(‏مثنى وثلاث ورباع ‏(‏صار تقديره‏:‏ مثنى مثنى، وثلاث ثلاث، ورباع رباع، فيفيد التخيير كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 1‏]‏‏.‏

والوجه الثانى أنه قال‏:‏ ‏(‏فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏، واللغة لا تدفع التخيير بين متباعدين يكون بينهما تفاوت، ولا يجوز أن يقال‏:‏ فإن خفتم ألا تعدلوا فى التسع فواحدة؛ لأنه يصير بمنزلة من يقول‏:‏ إن خفت أن تخرج إلى مكة على طريق الكوفة فامض إليها على طريق الأندلس أو الصعيد، وبالقرب من مكة طرق كثيرة لا يخاف منها، فعلم أنه أراد التخيير بين الواحدة والاثنين، وبين الثنتين والثلاث‏.‏

وأما قولهم‏:‏ إنه عليه السلام مات عن تسع، ولنا أن نتأسى به، فإننا نقول‏:‏ إنه كان مخصوصًا بالزيادة عن الأربع كما خص بأن ينكح بغير صداق، وكما خص ألا ينكح أزواجه من بعده وأنه اتفق أن مات عن تسع، وروى أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اختر منهن أربعًا وفارق سائرهن‏)‏، فسقط قولهم‏.‏